فصل: الطرف العاشر في الكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف العاشر في الكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية:

ولها حالتان:
الحالة الأولى: ما كان الأمر عليه قبل دولة الخلفاء الفاطميين بها في الدولة الأخشيدية والطولونية وما قبلهما:
والذي وقفت عليه من رسم المكاتبة عنهم أن تفتتح بلفظ: من فلان إلى فلان. كما كتب ابن عبدكان عن أحمد بن طولون إلى ابنه العباس حين عصى عليه بالإسكندرية، منذراً له وموبخاً على فعله، وهو: من أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين، إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه؛ العادي لطوره، الجاهل لقدره؛ الناكص على عقبه، المركوس في فتنته، المبخوس من حظ دنياه وآخرته!.
سلام على كل منيب مستجيب؛ تائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم، وحلول الفوت والندم.
وأحمد الله الذي لا إله إلا هو حمد معترف له بالبلاء الجميل، والطول الجليل؛ وأساله مسألة مخلص في رجائه، مجتهد في دعائه؛ أن يصلي على محمد المصطفى، وأمينه المرتضى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنملة يكون حتفها في جناحيها، وستعلم- هبلتك الهوابل! أيها الأحمق الجاهل؛ الذي ثنى على الغي عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه- أي موردة هلكة بإذن الله توردت، إذ على الله جل وعز تمردت وشردت، فإنه تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلاً: {قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.
وإنا كنا نقربك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا؛ طمعاً في إنابتك، وتأميلاً لفيئتك؛ فلما طال في الغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك؛ ولم نر الموعظة تلين كبدك، ولا التذكير يقيم أودك، لم تكن لهذه النسبة أهلاً، ولا لإضافتك إلينا موضعاً ومحلاً؛ بل لا نكنى بأبي العباس إلا تكرهاً وطمعاً بأن يهب الله منك خلفاً نقلده اسمك ونكنى به دونك، ونعدك كنت نسياً منسياً، ولم تك شيئاً مقضياً؛ فانظر ولا نظر بك إلى عار نسبته تقلدت، وسخط من قبلنا تعرضت، واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك؛ والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحرب وبويل؛ فإنا نقسم، ونرجو أن لا نجور ونظلم، أن لا نثني عنك عنانا، ولا نؤثر على شانك شانا؛ ولا تتوقل ذروة جبل، ولا تلج بطن واد؛ إلا جعلناك بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أممت منهما؛ منفقين فيك كل مال خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت؛ حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك؛ وتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتود أنك هبلت ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلك من غواتك قبلت؛ فحينئذ يتفرى لك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحق عن محضه؛ فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر فيهما؛ وتعلم أنك كنت متمسكاً بحبائل غرور، متمادياً في مقابح أمور من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا ينجو هاربه؛ وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودى قتيله؛ وتقف على سوء رويتك، وعظم جريرتك؛ في تركك قبول الأمان إذ هو لك مبذول، وأنت عليه محمول؛ وإذ السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح؛ وتتلهف والتلهف غير نافعك إلا أن تكون أجبت إليه مسرعاً، وانقدت إليه منتصحاً.
وإن مما زاد في ذنوبك عندي ما ورد به كتابك علي بعد نفوذي على الفسطاط من التمويهات والأعاليل، والعدات بالأباطيل، من مصيرك بزعمك إلى إصلاح ما ذكرت أنه فسد علي، حتى ملت إلى الإسكندرية، فأقمت بها طول هذه المدة؛ واستظهاراً عليك بالحجة، وقطعاً لمن عسى أن يتعلق به معذرة علم بأن الأنار غير صادة، ولا أنه خاجني شك ولا عارضني ريب في أنك إنما أردت النزوح والاحتيال للهرب، والنزوع إلى بعض المواضع التي لعل قصدك إياها يوديك، ولعل مصيرك إليها يكفينيك؛ ويبلغ إلي أكثر من الإرادة فيك، لأنك إن شاء الله لا تقصد موضعاً إلا تلوتك، ولا تأتي بلداً إلا قفوتك؛ ولا تلوذ بعصمة تظن أنها تنجيك إلا استعنت بالله عز وجل في جد حبلها؛ وفصم عروتها؛ فإن أحداً لايؤوي مثلك ولا ينصره إلا لأحد أمرين من دين أو دنيا. فأما الدين فأنت خارج من جملته لمقامك على العقوق، ومخالفة ربك وإسخاطه. وأما الدنيا فما أراه بقي معك من الحطام الذي سرقته وحملت نفسك على الإيثار به، ما يتهيأ لك مكاثرتنا بمثله، مع ما وهب الله لنا من جزيل النعمة التي نستودعه تبارك وتعالى إياها، ونرغب إليه في إنمائها، إلى ما أنت مقيم عليه من البغي الذي هو صارعك، والعقوق الذي هو طالبك.
وأما ما منيتناه من مصيرك إلينا في حشودك وجموعك، ومن دخل في طاعتك؛ لإصلاح عملنا، ومكافحة أعدائنا؛ بأمر أظهروا فيه الشماتة بنا، فما كان إلا بسببك فأصلح أيها الصبي الأخرق أمر نفسك قبل إصلاحك عملنا، واحزم في أمرك قبل استعمالك الحزم لنا؛ فما أحوجنا الله وله الحمد إلى نصرتك وموازرتك، ولا اضطررنا إلى التكثر بك على شقاقك ومعصيتك: {وما كنت متخذ المضلين عضداً}.
وليت شعري على من تهول بالجنود، وتمخرق بذكر الجيوش؛ ومن هؤلاء المسخرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزق ترزقهم إياه، ولا عطاء تدره عليهم؛ فقد علمت إن كان لك تمييز، أو عندك تحصيل؛ كيف كانت حالك في الوقعة التي كانت بناحية أطرابلس، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتى هزمت، فكيف تغتر بمن معك من الجنود الذي لا اسم لهم معك؛ ولا رزق يجري لهم على يدك؟ فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتك والمداراة لك والخوف من سلطانك، فإنهم ليجذبهم أضعاف ذلك منا، ووجودهم من البذل الكثير والعطاء الجزيل عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحرى بخذلك، والميل إلينا دونك. ولو كانوا جميعاً معك ومقيمين على نصرتك، لرجونا أن يمكن الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السوء عليك وعليهم، ويجرينا من عادته في النصر وإعزاز الأمر على ما لم يزل يتفضل علينا بأمثاله، ويتطول بأشباهه. فمادعاني إلى الإرجاء لك، والتسهيل من خناقك والإطالة من عنانك، طول هذه المدة إلا أمران: أغلبهما كان علي احتقار أمرك واستصغاره؛ وقلة الاحتفال والأكتراث به؛ وإني اقتصرت من عقوبتك على ما أخلقته بنفسك من الإباق إلى أقاصي بلاد المغرب شريداً عن منزلك وبلدك، فريداً من أهلك وولدك؛ والآخر أني علمت أن الوحشة دعتك إلى الانحياز إلى حيث انحزت إليه، فأردت التسكين من نفارك، والطمأنينة من جأشك، وعملت على أنك تحن إلينا حنين الولد، وتتوق إلى قربنا توقان ذي الرحم والنسب؛ فإن في رفقنا بك ما يعطفك إلينا، وفي تآخينا إياك ما يردك علينا، ولم يسمع منا سامع في خلاء ولا ملإ انتقاصاً بك، ولا غضاً منك؛ ولا قدحاً فيك، رقة علينك، واستتماماً لليد عندك، وتأميلاً لأن تكون الراجع من تلقاء نفسك، والموفق بذلك لرشدك وحظك؛ فأما الآن مع اضطرارك إياي إلى ما اضطررتني إليه من الانزعاج نحوك، وحبسك رسلي النافذين بعهد كثير إلى ما قبلك؛ واستعمالك المواربة والخداع فيما يجري عليه تدبيرك. فما أنت بموضع للصيانة، ولا أهل للإبقاء والمحافظة، بل اللعنة عليك حاله، والذمة منك بريه، والله طالبك ومؤاخذك بما استعملت من العقوق والقطيعة، والإضاعة لرحم الأبوة، فعليك من ولد عاق شاق لعنة الله ولعنة اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين؛ ولا قبل الله لك صرفاً ولا عدلاً، ولا ترك لك منقلباً ترجع إليه، وخذلك خذلان من لا يؤبه له، وأثكلك ولا أمهلك، ولا حاطك ولا حفظك. فوالله لأستعملن لعنك في دبر كل صلاة، والدعاء عليك في آناء الليل والنهار، والغدو والآصالة؛ ولأكتبن إلى مصر، وأجناد الشامات والثغور، وقنسرين، والعواصم، والجزيرة، والحجاز، ومكة، والمدينة كتباً تقرأ على منابرها فيك، باللعن لك، والراءة منك، والدلالة على عقوقك وقطيعتك، يتناقلها آخر عن أول، ويأثرها غابر عن ماض، وتخلد في بطون الصحائف، وتحملها الركبان، ويتحدث بها في الآفاق، وتلحق بها وبأعقابك عاراً ما أطرد الليل والنهار، واختلف الظلام والأنوار.
فحينئذ تعلم أيها المخالف أمر أبيه، القاطع رحمه، العاصي ربه؛ أي جناية على نفسك جنيت؟ وأي كبيرة اقترفت واجتنيت، تتمنى، لو كانت فيك مسكه، أو فيك فضل إنسانية، أنك لم تكن ولدت، ولا في الخلق عرفت، إلا أن تراجع من طاعتنا والإسراع إلى ما قبلنا خاضعاً ذليلاً كما يلزمك، فنقيم الاستغفار مقام اللعنه، والرقة مقام الغلظة؛ والسلام على من سمع الموعظة فوعاها، وذكر الله فاتقاه، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الأخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية، وما معها من البلاد الشامية، والأعمال الحجازية، إلى أرمانوس: ملك الروم، وقد أرسل أرمانوس إليه كتاباً يذكر من جملته بأنه كاتبه وإن لم تكن عادته أن يكاتب إلا الخليفة، فأمر بكتابة جوابه فكتب له الكتاب عدة أجوبة ورفعوا نسخها إليه، فلم يرتض منها إلا ما كتبه إبراهيم بن عبد الله النجيرمي وكان عالماً بوجوه الكتابة. وسخته على ما ذكره ابن سعيد في كتابه المغرب في أخبار المغرب: من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين، إلى أرمانوس عظيم الروم ومن يليه.
سلام بقدر ما أنتم له مستحقون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فقد ترجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحاً بذكر فضيلة الرحمة، وما نمي عنا إليك، وصح من شيمنا فها لديك؛ وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من الفداء والتوصل إلى تخليص الإسرى، إلى غير ذلك مما اشتمل عليه وتفهمناه.
فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول، الذي يليق بذوي الفضل والنبل؛ ونحن بحمد الله نعمه علينا بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيانا مجتهدون، وبه متواصون وعاملون. وإياهنسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح بمنه وقدرته.
وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنا نرغب إلى الله جل وعلا الذي تفرد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفقنا لها، ويجعلنا من أهلها، وييسرنا للاجتهاد فيها، والاعتصام من زيغ الهوى عنها، وعرة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفاً على طاعته، وموجبات مرضاته، حتى نكون أهلاً لما وصفتنا به، وأحق حقاً بما دعوتنا إليه، وممن يستحق الزلفى من الله تعالى، فإن فقراء إلى رحمته؛ وحق لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحملة من جسيم المر ما حملنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنابمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم، وأنه الملك القديم الموهوب من الله، الباقي على الدهر، وإنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقاً وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك أن نعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيباً، ولا يقع في معانا صغيرة من المور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرض مهجته، فيما ينفع رعيته؛ والذي تجشمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته فهو أمر سهل يسير، لأمر عظيم خطير؛ وجل نفعه وصلاحه وعائدته تخصكم، لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منا في أيديكم فهو على بينة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله؛ وإن في الأسارى من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه، وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه؛ هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم سياستكم، والتوصل إلى استنقاذ أسرائكم؛ ولولا أن إيضاح القول في الصواب، أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحا؛ إذ رأينا أن نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حل محلنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه، ورد ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشرف كله في إجابتهم، ولا عار على أحمد وإن جل قدره في ردهم؛ ومن وثق في نفسه ممن جاوره، وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسب ما تقدم لها من تقدم، وكذلك كاتب من حل محلك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدة، كان يتقلد في سالف الدهر كل مملكة منها ملك عظيم الشأن.
فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره، حتى ادعى الإلهية وافتخر على نبي الله موسى بذلك.
ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبايعة، والأقيال العباهلة: ملوك حمير، على عظم شأنهم، وكثرة عددهم.
ومنها أجناد الشام التي: منها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم ومن قبله من عظمائها.
ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث، واختيار الملوك المتقدمين له.
ومنها جند الأردن على جلالة قدره، وأنه دار المسيح صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدسة، وبها المسجد الأقصى، وكرسي النصرانية، ومعتقد غيرها، ومحج النصارى واليهود طرا، ومقر داود وسليمان ومسجدهما. وبها مسجد إبراهيم وقبره وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، وبها مولد المسيح وأمه وقبرها.
هذا إلى ما نتقلده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة، والدلالات الظاهرة؛ فإنا لو لم نتقلد غيرها لكانت بشرفها، وعظم قدرها، وما حوت من الفضل توفي على كل مملكة، لأنها محج آدم ومحج إبراهيم وارثه ومهاجره، ومحج سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام وداره وقبره، ومنبت ولده، ومحج العرب على مر الحقب، ومحل أشرافها، وذوي أخطارها، على عظم شأنهم، وفخامة أمرهم، وهو البيت العتيق، المحرم المحجوج إليه من كل فج عميق، الذي يعترف بفضله وقدمه أهل الشرف، من مضى ومن خلف؛ وهو البيت المعمور، وله الفضل المشهور.
ومنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المقدسة بتربته، وإنها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدين المستقيم الذي امتد ظله على البر والبحر، والسهل والوعر؛ والشرق والغرب، وصحارى العرب على بعد أطرافها، وتنازح أقطارها، وكثرة سكانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدتها، وصدق بأسها ونجدتها، وكبر أحلامها، وبعد مرامها، وانعقاد النصر من عند الله براياتها. وإن الله تعالى أباد خضراء كسرى، وشرد قيصر عن داره ومحل عزه ومجده بطائفة منها. هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا؛ وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسي من أعظم كراسيكم: بيت المقدس، وأنطاكية، والإسكندرية، مع ما إلينا من البحر وجزائره، واستظهارنا بأتم العتاد. وإذا وفيت النظر حقه علمت أن الله تعالى قد أصفانا بجل الممالك التي ينتفع الأنام بها، وبشرف الأرض المخصوصة بالشرف كله دنيا وآخرة، وتحققت أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كل منزلة. والحمد لله ولي كل نعمة.
وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمها وسعتها بفضل الله علينا وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيانا كما كتبت إلينا وصح عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين القلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة ويكسبها المودة والمحبة.
والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً على نعمه التي تفوت عندنا عدد العادين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين. ونسأله أن يجعلنا ممن تحدث بنعمته عليه شكراً لها، ونشراً لما منحه الله منها ومن رضي اجتهاده في شكرها، ومن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها، وكان سعيه مشكوراً، إنه حميد مجيد.
وما كنت أحب أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة، والقدرة القاهرة، ثم الفوز الأكبر يوم الدين، لكنك سلكت مسلكاً لم يحسن أن نعدل عنه، وقلت قولاً لم يسعنا التقصير في جوابه، ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به، إذ نحن نكرم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك، وما يتصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين، وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدمك من سلفك؛ ومن كان محموداً في أمره، رغب في محبته، لأن الخير أهل أن يحب حيث كان، فإن كنت إنما توهل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته، وعظمت دولته، وحسنت سيرته؛ فهذه ممالك عظيمة، واسعة جمة، وهي أجل الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسر الأرض المخصوصة بالشرف، فإن الله قد جمع لنا الشرف كله، والولاء الذي جعل لنا من مولانا أمير المؤمينن أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى مالنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا، والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي فيما يرضيه بلطفه، ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه. وإن كنت تجري في المكاتبة على رسم من تقدمك من قبلنا من لم يحل محلنا، ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلده مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ما قلدنا، ولا فوض إليه ما فوض إلينا؛ وقد كوتب أبو الجيش خمارويه ين أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين ولي يكن تقلد سوى مصر وأعمالها.
ونحن نحمد الله كثيراً أولاً وآخراً على نعمه التي يفوت عندنا عددها عد العادين، ونشر الناشرين. ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددنا من ذلك حالات: أولها التحدث بنعمة الله علينا؛ ثم الجواب عما تضمنه كتابك من ذكر المحل والمنزلة في المكاتبة، ولتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه المسالك، وعندنا قوة تامة على المكافأة على جميل فعلك بالأسارى، وشكر واف لما توليهم وتتوخاه من مسرتهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيق للسداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنه ورحمته.
وأما الملك الذي ذكرت أنه باق على الدهر لأنه موهوب لكم من الله خاصة، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وإن الملك كله لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير. وإن الله عز وجل نسخ ملك الملوك وجبرية الجبارين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وشفع نبوته بالإمامة وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر، ويلقيها ماض إلى غابر؛ حتى نجز أمر الله ووعده، وبهر نصره وكلمته، وأظهر حجته وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
وإن أحق ملك أن يكون من عند الله، وأولاه وأخلقه أن يكنفه الله بحراسته وحياطته، ويحفه بعزه وأيده، ويجلله بهاء السكينة في بهجة الكرامة، ويجمله بالبقاء والنجاء ما لاح فجر، وكر دهر، ملك إمامة عادلة خلفت نبوة فجرت على رسمها وسننها، وأرتسمت أمرها، وأقامت شرائعها، ودعت إلى سبلها، مستنصرة بأيدها، منتجزة لوعدها؛ وإن يوماً واحداً من إمامة عادلة خير عند الله من عمر الدنيا تملكا وجبرية.
ونحن نسأل الله تعالى أن يديم نعمه علينا، وإحسانه إلينا بشرف الولاية، ثم بحسن العاقبة بما وفر علينا فخره وعلاه، ومجده وإحسانه إن شاء الله، وبه الثقة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأما الفداء ورأيك في تخليص الأسرى، فإنا وإن كنا واثقين لمن في أيديكم بإحدى الحسنيين، وعلى بينة لهم من أمرهم، وثبات من حسن العاقبة عظم المثوبة، عالمين بما لهم، فإن فيهم من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا ولذتها، سكوناً إلى ما يتحققه من حسن المنقلب جزيل الثواب. ويعلم أن الله قد أعاده من أن يفتنه، ولم يعذه من أن يبتليه؛ وقد تبينا مع ذلك في هذا الباب ما شرعه لنا الأئمة الماضون، والسلف الصالحون، فوجدنا ذلك موافقاً لما التمسته، وغير خارج عما أحببته؛ فسررنا بما تيسر منه، وبعثنا الكتب والرسل إلى عمالنا في سائر أعمالنا، وعزمنا عليهم في جمع كل من قبلهم وأتباعهم بما وفر الإيمان في إنفاذهم، وبذلنا في ذلك كل ممكن، وأخرنا إجابتك عن كتابك ليبقدم فعلنا قولنا، وإنجازنا وعدنا؛ ويوشك أن يكون قد ظهر لك من ذلك ما وقع أحسن الموقع منك إن شاء الله.
وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة، واستشعرته لنا من المودة والمحبة، فإن عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب، وتقتضيه نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل، فإن ذلك من الأسباب التي تخصنا وإياك. ورأينا من تحقيق جميل ظنك بنا إيناس رسلك إلينا، وإلطافك إيانا بالقبول إليهم والإقبال عليهم؛ وتلقينا انبساطك إلينا، وإلطافك إيانا بالقبول الذي يحق علينا، ليقع ذلك موقعه؛ وزدنا في توكيده ما اعتمدته ما حملناه رسلك في هذا الوقت على استقلالنا إياه من طرائف بلدنا وما يطرأ من البلاد علينا؛ وإن الله بعدله وحكمته أودع كل قرية صنفاً ليتشوف إليه من بعد عنه، فيكون ذلك سبباً لعمارة الدنيا ومعايش أهلها. ونحن نفردك بما سلمناه إلى رسولك لتقف عليه إن شاء الله.
وأما ما أنفذذته للتجارة فقد أمكنا أصحابك منه، وأذنا لهم في البيع وفي ابتياع ما أرادوه واختاروه؛ لأنا وجدنا جميعه مما لا يحظره علينا دين ولا سياسة، وعندنا من بسطك وبسط من يرد من جهتك، والحرص على عمارة ما بدأتنا به ورعايته، ورب ما غرسته، أفضل ما يكون عند مثلنا لمثلك. والله يعين على ماننويه من جميل، ونعتقده منخير، وهو حسبنا ونعم والوكيل.
ومن ابتدأ بجميل لزمه الجري عليه والزيادة، ولا سيما إذا كان من أهله وخليقاً به. وقد ابتدأتنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا، وباعتمادنا بحوائجك وعوارضك؛ فأبشر بتيسير ذلك إن شاء الله.
والحمد لله أحق ما ابتدئ به، وختم بذكره، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وسلم تسليماً.
الحالة الثانية: مكاتبات ملوك الديار المصرية في الدولة الأيوبية:
من حالات المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية ما كان الحال عليه بعد الدولة الفاطمية في الدولة الأيوبية.
وقد ذكر عبد الرحيم بن شيث أحد كتاب الدولة الأيوبية في أواخر دولتهم مصطلح ما يكتب عن السلطان في خلال كلامه، فقال: إن الناس كانوا لا يكتبون المجلس إلا للسلطان خاصة، ويكتبون لأعيان الدولة من الوزراء وغيرهم الحضرة ثم أفردوا للسلطان بالمقام والمقر، وصاروا يكتبون المجلس لمن دونه، ولم يسوغوا مكاتبة السلطان بعد ذلك بالمجلس ولا بالحضرة. قال: ويكتب السلطان إلى ولده المستخلف عنه بالمجلس دون المقام. واصطلحوا على الاختصار في نعوت الملوك المكتوب إليهم والدعاء، بخلاف من هو تحت أمر السلطان وتحت حوزته، فإنه كلما ك3ثرت النعوت والدعاء له في مكاتبة السلطان إليه، كان أبلغ: لأن ذلك في معنى التشريف من السلطان، وأنه لا يقال في المقام السامي بل العالي. وأنه إذا كتب السلطان إلى من هو دونه من ذوي الأقدار عبر بالمجلس السامي، ولا يزاد على ذلك، ثم يفرد عن النسب بعد السامي، فيقال: الأمير الأجل من غير ياء النسب. وأنه لا يقال العالي مكان السامي في الكتابة عن السلطان، وقد يجمع بينهما لذوي الأقدار، وأنه يضاف في نعت كل أمير عمدة الملوك والسلاطين عز الإسلام، أو نصرة الإسلام، أو فارس المسلمين أو ما شابه ذلك من غير ضبط ولا تخصيص لأحد دون أحد إذا أحرزوا النعت الذي اشتهر به المكتوب إليه. وأنه يقال: عمدة الملوك والسلاطين وعدة الملوك والسلاطين وذخر الملوك ودونها اختيار الملوك. وللأقارب فخر الملوك وجمال الملوك وعز الملوك وزين الملوك. وللأماثل معين الملوك ونصرة الملوك وما أشبه ذلك وأنه يكتب للأمراء الأعيان: حسام أمير المؤمنين وولي أمير المؤمنين وأمير المؤمنين وثقة أمير المؤمنين وصنيعة أمير المؤمنين على مقدار مراتبهم. وأن نعت الأجل يذكر بعد العلو والسمو بأن يقال: المجلس العالي الأجل أو السامي الأجل وربما كان بعد ذكر الإمرة أو القضاء فيقال: الأمير الأجل أو القاضي الأجل. وأن السلطان لا يبتدئ بالدعاء في كتبه إلى أحد إلا من ماثله في الملك. وأن السلطان لا يكتب إلى ممن هو تحت أمره بلا زال ولا برح في الدعاء، وإنما يكتب بذلك إلى من ماثله من الملوك، أو إلى ولده المستخلف عنه في الملك. وأن الدعاء للملوك يكون مثل أدام الله أيامه وخلد سلطانه وثبت دولته وما أشبه ذلك. وأن التحميد في أوائل الكتب لا يكون إلا في الكتب الصادرة عن السلطان. وأن غاية عظمة المكتوب إليه أن يكون الحمد ثانية وثالثة في الكتاب، ثم يؤتى بالشهادتين، ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم. وأنه يكتب في الكتب السلطانية صدرت وأصدرناها ولا يكتب كتبت. وأن الذي تخاطب به الخلافة عن السلطان: المواقف المقدسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقر الرحمة، ومحل الشرف. والذي يخاطب به الملوك: المقام العالي، والمقر الأشرف ولا يقال المقام السامي والذي يخاطب به الوزراء: الجناب العالي، والمحل السامي. ومن دون ذلك المجلس السامي ودونه مجلس الحضرة. ودونه الحضرة. وأنه لا يكتب عن السلطان لمن هو تحت أمره إلا بنون الجمع لدلالتها على العظمة، ولا يكتب تشعر إلا عن السلطان خاصة بخلاف تعلم وأن الكتب الصادرة عن السلطان تكون طويلة الطرة، وتكون بقلم جليل غير دقيق. وأنه يوسع بين السطور حتى يكون بين كل سطرين ثلاث أصابع أو أربع أصابع. وأنه لا يخرج عن سمت البسملة في الكتابة، ولا يحتمل ذلك إلا في الحمدلة. وأنه لا يكثر النقط والشكل في الكتب الصادرة عن السلطان لا سيما في الألفاظ الظاهرة. وأن الدعاء على العدو كان محظوراً في الكتب الصادرة عن السلطان إلى من دونه، ثم استعمل ذلك. وأنه لا تترك فضلة في آخر الكتاب بياضاً، ولا يكتب في حاشية الكتاب. وأن الترجمة عن السلطان في كتبه لمن تحت أمره أعلاهم وأدناهم، العلامة؛ فإن أراد تمييز أحد منهم كتب له شيئاً بخطه في مكان العلامة. وأن العلامة تكون إلى البسملة من السلطان أقرب، وأنه لا حرج على السلطان أن يترجم للقضاة والعلماء والعباد بأخيه وولده. وأن عنونة الكتاب وختمه مختص بصاحب ديوان الإنشاء ليدل ذلك على وقوفه على الكتاب. وأنه لا يجوز عنونة الكتاب قبل أن يكتب عليه السلطان ترجمته أو علامته. وأن الكتب لا تبقى مفتوحة إلا أن تكون فإطلاق مال لأن كرم الكتاب ختمه، ولا أكرم من كتب السلطان؛ ويكون طي الكتاب الصادر عن السلطان عرض ثلاثة أصابع. أن كرم الكتاب ختمه، ولا أكرم من كتب السلطان؛ ويكون طي الكتاب الصادر عن السلطان عرض ثلاثة أصابع.
ثم مشهور مكاتباتهم على أربعة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للمجلس أو الجناب:
مثل: أدام الله أيام المجلس، أو أدام الله سلطان المجلس، أو أدام الله نعمة المجلس، أو أدام الله اقتدار المجلس، أو أدام الله سعادات المجلس، أو خلد الله أيام المجلس أو سلطان المجلس، أو ثتب الله دولة المجلس، وما أشبه ذلك مما فيه معنى الدوام؛ وربما أبدل لفظ الدوام وما في معناه بالمضاعفة، مثل: ضاعف الله نعمة المجلس. ويؤتى على الألقاب إلى آخرها، ثم يقال: نشعر المجلس أو الأمير بكذا ونحو ذلك، ويؤتى على المقصود إلى آخره. يختم بالدعاء وقد يختم بغيره.
وهذه نسخة مكاتبة من هذا الأسلوب بالإخبار بفتح غزة واقتلاعها من الفرنج الديوية الذين كانوا مستولين عليها، وهي: أدام الله سعادات المجلس، وأحسن له التدبير، وأصفى عيشه من التكدير، وحقق له وفيه أحسن الرجاء والتقدير، وجعل وجهه من أهلة الأكابر والتكبير، وأعاد تأخير أجله من التقديم وتقديم حظه من التأخير.
نشعر المجلس بما من الله تعالى به من فتح غزة يوم الجمعة الجامع لشمل النصر، القاطع لحبل الكفر؛ وهذه المدينة قد علم الله أنها من أوسع المدائن، وأملإ الكنائن، وأثرى المعادن؛ وهي كرسي الديوية ومهبط رؤوسهم، ومحط نفوسهم، وحمى كليبهم بل كلابهم، وظهير صليبهم بل أصلابهم؛ وما كانت الأبصار إليها تطمح، ولا الأقدار بها قبلنا تسمح؛ ولها قلعة أنفها شامخ في الهواء، وعطفها جامح عن عطفة اللواء؛ قد أوغلت في الجو مرتفعة، وأومضت في الليل ملتعمة، وبرداء السحاب ملتفعه؛ قد صافحتها أيدي الأنام بالسلامة من قوراعها، وهادنتها حوادث الأيام على الأمن من روائعها، إلى أن أبيح لها من أتاح لها الحين، وقبض لها من اقتضى منها الدين؛ فصبحها بما ساء به صباحها. وزعزعها بالزئير الذي خرس له نباحها. وكان من خبرها أننا لما أطللنا عليها مغيرين، وأطفنا بها دائرين، ولكؤوس الحرب مديرين؛ تغلبت الأنجاد والأبطال على الزحف، وأعجل ارتياح النصر عن انتظام عقد الصف؛ وانقضوا عليها، انقضاض البزاة على طرائدها، وأسرعوا إليها، إسراع العطاش إلى مواردها؛ ورفعت الألوية خافقة كذوائب الضرام، طالعة برسائل الحمام، مشيرة بالعذبات إشارة لم يطمئنوا إليها بالسلام؛ وجاءهم الموت من كل مكان، وأمطرت الشهب من كل سنان؛ فرأوا مثواهم الحبيب، ومحلهم الخصيب؛ وقد ركضت فيه خيول الغير، واعترضت فيه سيول العبر، جردت فيه نصول القدر؛ والنار قد لعبت فيه مجده، واحمرت فيه خدودها مخده؛ وأقواتهم المدخره، وأموالهم المثمره؛ نفلاً مباحاً، نزبداً مطاحاً؛ مغنماً مشاعاً، ونهباً مصاغاً؛ قد ملئت منه الرحال وأخصبت، واتسعت به الأيدي وضاقت به الأرض بما رحبت.
الأسلوب الثاني: أن تفتح المكاتبة بلفظ الإصدار:
مثل: أصدرنا هده المكاتبة، أو أصدرت، أو صدرت؛ ويؤتى على المقصود على ما تقدم.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أخيه سيف الإسلام سلطان اليمن، يستقدمه إليه معاوناً له على قتال الفرنج خذلهم الله! ويبشره بفتح كوكب، وصفد، والكرك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وهو:
اصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدد بحضرتنا فتوح كوكب: وهي كرسي الاستبارية ودار كفرهم، ومستقر صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم؛ وكان بمجمع الطرق قاعداً، ولملتقى السبل راصداً؛ فتعلقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت، وسلكت الطرق فيها وأمنت وعمرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا صور، ولولا أن البحر ينجدها، والمراكب تردها؛ لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم؛ بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجل فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ولكل امرئ أجل لابد أن يصدقه غائبه، وأمل لا بد أن يكذبه خائبه- وكان نزولنا على كوكب بعد أن فتحت صفد بلد الديوية ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم، ومحلهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتحنا الكرك وحصونه؛ والمجلس السيفي أسماه الله أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيته المشكلة، وعلته المعضلة؛ وأن الفرنج- لعنهم الله- كانوا يقعدون منه مقاعد للسمع، ويتبوأون منه مواضع للنفع، ويحولون بين قات؟ وراكبها، فيذللون الأرض بما كانوا منه ثقلاً على مناكبها؛ والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشد من أمن بلاد الحرمين؛ فكلها كان مشتركاً في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام؛ وطالما استفرعنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجت النصال من النصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإن بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماًً. وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه؛ والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسوا الجبال عمائمها البيض؛ والأودية قد عجت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولاً، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولاً؛ والأوحال قد اعتقلت الطرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات، فتجشمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدو والزمان وقد يحرز الحظ المكاثر؛ وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فإعان على حملها، ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من ثقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها؛ واما بنعمة ربك فحدث.
والحمد لله الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الاسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث؛ فمدح السيف ينقسم على حديه، ومدح الكريم يتعدى إلى يديه؛ والآن فالمجلس- أسماه الله- يعلم أن الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا؛ فإنهم- خذلهم الله- أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كل سفينة غصباً، ويطمع في كل مدينة كسباً؛ ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقربيهم وأبعديهم؛ وسيجعل الله بعد عسر يسرا، {لا تدري لعل يحدث بعد ذلك أمرا}.
وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت، وإن لم يقذفوا من كل جانت دحورا، ويتبعوا بكل شهاب ثاقب مدحورا، استأسدوا واستكلبوا، وتألبوا وجلبوا وأجلبوا، وحاربوا، وحزبوا؛ وكانوا لباطلهم الداحض، أنصر منا لحقنا الناهض؛ وفي ضلالهم الفاضح، أبصر منا لهدانا الواضح، ولله در جرير حيث يقول:
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ** وابن اللئيمة للئام نصورا

فالبدار إلى النجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لا تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار؛ والهمة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار:
وما هي إلا نهضة تورث العلا ** ليومك ما حنت روازم نيب!

ونحن في هذه السنة- إن شاء الله تعالى- ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفر- أظفره الله- على طرابلس؛ ويستقر الركات العادلي- أعلاه الله- بمصر؛ فإنها مذكورة عند العدو- خذله الله- بأنها تطرق، وأن الطلب على الشام ومصر تفرق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفي- أسماه الله- بحراً في بلاد الساحل يزخر سلاحاً، ويجرد سيفاً يكون على ما فتحناه قفلاً ولما لم يفتح بعد مفتاحاً، فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في مسمع سمعه، وفي كل روع روعه؛ وفي كل محضر محضر، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر؛ فما يدعي العظيم إلا للعظيم ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم هذا والأقدار ماضيه، وبمشيئة الله جاريه؛ فإن يشإ الله ينصر على العدو المضعف، بالعدد الأضعف؛ ويوصل إلى الجوهر الأعلى بالعرض الأدنى؛ فإنا لا نرتاب بأن الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرقها؛ وأن العدو إن خرج من داره بطرا، ودخل إلى دارنا كان فيها جزرا؛ وما بقي إن شاء الله إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها؛ وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فوالله إنا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشد منا حرصاً على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة؛ وإنا لا يسرنا أن ينقضي عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر؛ ولا شك أن سيفه لو اتصل بلسان ناطق وفم، لقال ما دمت هناك فلست ثم؛ وما هو محمول على خطة يخافها، ولا متكلف قضية بحكمنا يعافها؛ والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقه ونستصغره؛ وما نأولناه لفتح أرضه السلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النجاح؛ إلا على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منا أنه لا يقعد عنا إذا قامت الحرب بنفسه وماله؛ فلا نكن به ظناً أحسن منه فعلاً، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلاً أن لا نراه لنصرنا أهلاً؛ وليستشر أهل الرشاد فإنهم لا يألونه حقاً واستنهاضاً، وليعص اهل الغواية فإنهم إنما يتغالون به لمصالحهم أغراضاً؛ ومن بيته يظعن، وإلى بيته يقفل؛ وهو يجيتنا جواب مثله لمثلنا، وينوى في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نية جمع شملنا؛ ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم، ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيض الصحيفة والوجه والذكر والسمعة، ودان الله أحسن دين فلا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرجعة؛ وليتدبر ما كتبناه، وليتفهم ما أردناه؛ وليقد الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة وليغضب الله ورسوله ولدينه ولأخيه فاهنا مكان الاستغضاب والاستشارة، وليحضر حتى يشاهد أولاداً لأخيه يستشعرون لفرقته غماً، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أن لهم مع عمهم عماً؛ والله سبحانه يلهمه توفيقاً! ويسلك به إليه طريقاً؛ وينجدنا به سيفاً لرقبة الكفر مرقاً ولدمه مريقاً؛ ويجعله في مضمار الطاعات سابقاً لا مسبوقاً.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ هذه المكاتبة إلى المجلس:
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب بالإخبار بفتح أيلة التي تحت العقبة في ممر حجاج مصر. وهي: هذه المكاتبة إلى المجلس الفلاني أعلى الله سلطانه، وعمر بالنجاح آماله وبالسعادة أوطانه، ولا زالت يد النصر تصرف يوم اللقاء عنانه، ويد لطف الله تفيض على الخلق يوم العلياء عنانه، وتمكن من هام العداء ونحورهم سيفه وسنانه؛ نشعره أنه لم تزل عوائد الله سبحانه عندنا متكفلة ما يوجب أن يبدأ الحمد ويعاد، مقربة لنا من الآمال كل ما كان رهين ناي وبعاد، موافقة لنا بالتوفيق فكأننا وإياه على ميعاد، معينة لنا على ما يعتده الغاش معاش وعيد معاد. وقد كان ما علم من غزوتنا إلى أيلة التي اخذها العدو معقلاً، وتديرهاً منزلاً، وعدها موئلاً؛ وغاض بها رونق الجملة، وفاض بها أهل القبلة، وصارت على مدارج الأنفاس، وعلى مراصد الافتراض والافتراس؛ وخصت الحرمين بأعظم قادح، واشتد عن حادثتها من لطف الله أعظم فاتح؛ ولما توجهنا إليها، نزلنا عليها؛ شاهدنا قلعة يحتاج راميها إلى الدهر المديد، والأمل البعيد، والزاد العتيد، والبأس الشديد؛ تنبو بعطف جامح عن الخطبة، وتعرض بذكر مانع عن الضربة؛ وتعطف بأنف على السحاب شامخ، وتطلع في الصباح بوجه شادخ، كأنما بينها وبين الأيام ذمام، وكأن نار الحوادث إذا بلغت ماءها برد وسلام؛ فأطفنا بها متبصرين، ونزلنا من ناحية البر بها مفكرين؛ وبينا نحن نأمر بالحرب أن يشب أوارها، وبالخيل أن تسير أسرارها، وبنار اللقاء أن يستطير شرارها، وبقناطير الموت من القسي أن تعقد أوتارها؛ وبالمجانيق أن تعقد حناياها وتحل أزرارها، وبالكواكب أن تذيقهم طعم الصغار كبارها، إذ نادى مناد من أعلى قمتها، ورأس قلتها؛ معلناً بالأمان، ناسخاً لآية الكفر بآية الإيمان؛ فأعارته الأسماع إنصاتها، واستحقت القلوب حصاتها؛ وعمدت إليه بنت بحر، عادت باب نصر، وساعة بدهر؛ وبشرني بغلام على كبر، وبظفر في سفر على قدر؛ فأعطى فرنجها ما طلبوا؛ وأتى اللطف للمسلمين بما لم يحتسبوا؛ وفي الحال رفعت عليها ألوية الإسلام ونشرت، وأوت إليها فئة الحق وحشرت، وتظاهرت عليها أولياء الله وظهرت؛ وقيل الحمد لله رب العالمين.
الأسلوب الرابع: أن تفتتح المكاتبة بلفظ كتابنا:
وباقي الأمر على نحو ما تقدم وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به القاضي الفاضل عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بعض الأمراء بالشام عند وفاة السلطان نور الدين محمود. وهي: كتابنا هذا إلى الأمير، معزين بالرزء الذي كملت أقسامه وتمت، ورمت أحداثه القلوب فأصمت، وطرقت أحاديثه الأسماع فأصمت، وأبى أن تعفو كلومه، وكاد لأجله الأفق تنكسف بدوره وتنكدر نجومه، وثلم جانب الدين لفقد من لولاه لدرست أعلمه ولم تدرس علومه، وفجأ فاستولى على كل قلب وجيبه وعلى كل خاطر وجومه؛ بانتقال المولى نور الدين إلى سكنى دار السلام، وقدومه على ما أعده الله له من جزاء ذبه عن الإسلام؛ وبكى أهله على فقد عزائمه التي بها حفظت وحرست، وشكت الممالك وحشة بعده وإن ابتهجت الملائكة بقربه وأنست؛ فلله هو! من مصاب أغرى العيون بفيضها، والنفوس بغيظها؛ ونقل الأولياء من ظل المسرة ونعيمها إلى هجير المساءة وقيظها؛ وأوجب تناجي الكفار بالنجاة من تلك السطوة التي لم تزل تزيدها غماً وتردها بغيظها.
ومنئين بما أسا الكلم وداواه، وحوى الحق إلى الجانب الأمنع وآواه؛ من جلوس ولده الملك الصالح ذي التصويب والتسديد مشمولاً منا بالعرف العميم، والطول الجسيم، جارياً على سننه المعهودة، وعادته المحمودة، في رفع صالح أدعيته عن صفاء سريرته، وخلوص عقيدته، مستمراً على جميل تحيته، في إمدادنا ببركته، إن شاء الله تعالى.
قلت: والمصطلح الجاري عليه الحال في المكاتبات الصادرة عن ملوك الديار المصرية في زماننا مأخوذة من الأساليب الثلاثة: الأول والثاني والثالث المقدم ذكرها. على أن في الدولة الأيوبية أساليب أخرى لا يسع استيعابها، ويغتنى عنها بما تقدم ذكره.